هنا تسكب العبرات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله سبحانه تعالى فضَّل مكة على سائر البلاد، وأنزل ذكرها في كتابه العزيز في مواضع عدَّة، واختص حرَمَهُ بفضائل عظيمة فقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:96-97).
وإلى أرض مكة أرض السلام، وقبلة الأنام؛ يفدُّ المحبُّون، ويتجه المصلون، ويقصد المهللون {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27) يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله مناسكاً لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين، متذللين كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا..." 1 .
وفي أرض الحرم تضاعف الحسنات، وتغفر السيئات، وتسكب العبرات؛ أليس هو الموضع الذي بكى فيه الأنبياء والصالحون، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرَ، واستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت فإذا عمر يبكي، فقال: ((يا عمر ها هنا تسكب العبرات)) وهو حديث ضعيف 2 ،
أليست أرض مكة هي حيث وقف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وقفات يدعو ربه، ويبتهل إليه؛ قال ابن القيم رحمه الله: "تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء:
الموقف الأول: على الصفا.
والثاني: على المروة.
والثالث: بعرفة.
والرابع: بمزدلفة.
والخامس: عند الجمرة الأولى.
والسادس: عند الجمرة الثانية" 3 .
وكان للسلف الصالح رحمهم الله حين يصلون إلى بيت الله أحوال وعبادات واجتهادات تتعجب منها العقول، وتصغر أمامها الهمم؛ لاسيما أثناء حجهم.
قال ضمرة بن ربيعة: "حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب" 4 .
وقال أبو الفرج الاسفراييني: "كان الخطيب البغدادي معنا في الحج، فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل، ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون حدثنا، فيحدثهم" 5 .
وقال محمد بن سوقة عن أبيه "أنه حج مع الأسود؛ فكان إذا حضرت الصلاة أناخ ولو على حجر، قَالَ: وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ" 6 .
وعن العلاء بن هارون قال: "سمعته يقول: حج مسروق فما افترش إلا جبهته حتى انصرف ..." 7 .
وقال محمد بن إسحاق: "قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود حاجاً، فاعتلَّت إحدى قدميه، فقام يصلي حتى أصبح على قدم، فصلى الفجر بوضوء العشاء" 8 .
وعن إبراهيم قال: "كانوا يحبون إذا دخلوا مكة أن لا يخرجوا حتى يختموا بها القرآن (يعني بمكة)"، وقال: "قرأ علقمة القرآن في ليلة بمكة بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف سبعاً، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثاني، ثم طاف سبعاً ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن"، وعن الحسن قال: "كان يعجبهم إذا قدموا للحج أو العمرة أن لا يخرجوا حتى يقرؤوا ما معهم من القرآن" 9 .
ومع شدة اجتهادهم وعبادتهم فلم تكن تفارقهم خشيتهم لربهم، ولا سكبهم لعبراتهم فعن سفيان قال: "حج علي بن الحسين فلما أحرم اصفر وانتفض، ولم يستطع أن يلبي، فقيل: ألا تلبي؟ قال: أخشى أن أقول: لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فلما لبى غُشي عليه، وسقط من راحلته" 10 .
وكان شريح إِذَا أحرم كأنه حية صماء 11 .
وقال عبد المجيد بن أبي رواد كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين كأن على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة، وكان طاوس رحمه الله ممن يُرى في ذلك النعت 12 .
"ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقاً (سدس درهم) أكان يردُّهم؟ فقيل: لا، فقال: والله المغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق" 13 .
بل الأعجب من ذلك ما حدَّث به أحمد بن أبي الحواري قال: "سمعت أبا سليمان يقول: لما حج أويس دخل المدينة، فلما وقف على باب المسجد قيل له هذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغُشي عليه، فلما أفاق قال: أخرجوني فليس بلادي بلداً محمد صلى الله عليه وسلم فيه مدفون" 14 .
هذه بعض العبرات والزفرات التي أُثِرَت عن السلف رحمهم الله أثناء حجهم لبيت الله الحرام، وحري بمن سمع فعلهم، أو بَلَغَهُ حالهم؛ أن يفعل كما فعلوا، وأن يقبل على ربه تعالى بأنواع العبادات القلبية والبدنية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من حجاج بيت الله الحرام حجهم، وأن يردَّهم إلى أهلهم سالمين غانمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع مناسك
1 زاد المعاد (1/47).
2 ابن ماجة برقم (2945)، والمستدرك (1/624) وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة في صحيحه (2712)، وقال الألباني ضعيف جداً أخرجه ابن ماجه وكذا الحاكم من طريق محمد بن عون عن نافع عن ابن عمر به ...، ثم علق على تصحيح الحاكم والذهبي لهذا الحديث فقال: ذلك من أوهامهما، فإن محمد بن عون هذا وهو الخراساني متفق على تضعيفه، بل هو ضعيف جداً، وقد أورده الذهبي نفسه في الضعفاء، وقال: قال النسائي متروك، وزاد في الميزان، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشئ. انظر إرواء الغليل (4/308-309).
3 زاد المعاد (2/265).
4 سير أعلام النبلاء (7/11).
5 سير أعلام النبلاء (18/279-280).
6 الطبقات الكبرى (6/72).
7 حليه الأولياء (2/95).
8 تهديب التهذيب (6/127).
9 مصنف ابن أبي شيبة (2/407).
10 سير أعلام النبلاء (4/392).
11 أخبار القضاة (2/212).
12 مسألة الطائفين للآجري (1/29).
13 مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (4/188).
14 حلية الأولياء (9/262).
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الله سبحانه تعالى فضَّل مكة على سائر البلاد، وأنزل ذكرها في كتابه العزيز في مواضع عدَّة، واختص حرَمَهُ بفضائل عظيمة فقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:96-97).
وإلى أرض مكة أرض السلام، وقبلة الأنام؛ يفدُّ المحبُّون، ويتجه المصلون، ويقصد المهللون {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27) يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن هذا اختياره سبحانه وتعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام، فإنه سبحانه وتعالى اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله مناسكاً لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين، متذللين كاشفي رؤوسهم، متجردين عن لباس أهل الدنيا..." 1 .
وفي أرض الحرم تضاعف الحسنات، وتغفر السيئات، وتسكب العبرات؛ أليس هو الموضع الذي بكى فيه الأنبياء والصالحون، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجرَ، واستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت فإذا عمر يبكي، فقال: ((يا عمر ها هنا تسكب العبرات)) وهو حديث ضعيف 2 ،
أليست أرض مكة هي حيث وقف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وقفات يدعو ربه، ويبتهل إليه؛ قال ابن القيم رحمه الله: "تضمنت حجته صلى الله عليه وسلم ست وقفات للدعاء:
الموقف الأول: على الصفا.
والثاني: على المروة.
والثالث: بعرفة.
والرابع: بمزدلفة.
والخامس: عند الجمرة الأولى.
والسادس: عند الجمرة الثانية" 3 .
وكان للسلف الصالح رحمهم الله حين يصلون إلى بيت الله أحوال وعبادات واجتهادات تتعجب منها العقول، وتصغر أمامها الهمم؛ لاسيما أثناء حجهم.
قال ضمرة بن ربيعة: "حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب" 4 .
وقال أبو الفرج الاسفراييني: "كان الخطيب البغدادي معنا في الحج، فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل، ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون حدثنا، فيحدثهم" 5 .
وقال محمد بن سوقة عن أبيه "أنه حج مع الأسود؛ فكان إذا حضرت الصلاة أناخ ولو على حجر، قَالَ: وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ" 6 .
وعن العلاء بن هارون قال: "سمعته يقول: حج مسروق فما افترش إلا جبهته حتى انصرف ..." 7 .
وقال محمد بن إسحاق: "قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود حاجاً، فاعتلَّت إحدى قدميه، فقام يصلي حتى أصبح على قدم، فصلى الفجر بوضوء العشاء" 8 .
وعن إبراهيم قال: "كانوا يحبون إذا دخلوا مكة أن لا يخرجوا حتى يختموا بها القرآن (يعني بمكة)"، وقال: "قرأ علقمة القرآن في ليلة بمكة بالبيت سبعاً، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمئين، ثم طاف سبعاً، ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بالمثاني، ثم طاف سبعاً ثم أتى المقام فصلى عنده فقرأ بقية القرآن"، وعن الحسن قال: "كان يعجبهم إذا قدموا للحج أو العمرة أن لا يخرجوا حتى يقرؤوا ما معهم من القرآن" 9 .
ومع شدة اجتهادهم وعبادتهم فلم تكن تفارقهم خشيتهم لربهم، ولا سكبهم لعبراتهم فعن سفيان قال: "حج علي بن الحسين فلما أحرم اصفر وانتفض، ولم يستطع أن يلبي، فقيل: ألا تلبي؟ قال: أخشى أن أقول: لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فلما لبى غُشي عليه، وسقط من راحلته" 10 .
وكان شريح إِذَا أحرم كأنه حية صماء 11 .
وقال عبد المجيد بن أبي رواد كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين كأن على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة، وكان طاوس رحمه الله ممن يُرى في ذلك النعت 12 .
"ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال: "أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقاً (سدس درهم) أكان يردُّهم؟ فقيل: لا، فقال: والله المغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق" 13 .
بل الأعجب من ذلك ما حدَّث به أحمد بن أبي الحواري قال: "سمعت أبا سليمان يقول: لما حج أويس دخل المدينة، فلما وقف على باب المسجد قيل له هذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: فغُشي عليه، فلما أفاق قال: أخرجوني فليس بلادي بلداً محمد صلى الله عليه وسلم فيه مدفون" 14 .
هذه بعض العبرات والزفرات التي أُثِرَت عن السلف رحمهم الله أثناء حجهم لبيت الله الحرام، وحري بمن سمع فعلهم، أو بَلَغَهُ حالهم؛ أن يفعل كما فعلوا، وأن يقبل على ربه تعالى بأنواع العبادات القلبية والبدنية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من حجاج بيت الله الحرام حجهم، وأن يردَّهم إلى أهلهم سالمين غانمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع مناسك
1 زاد المعاد (1/47).
2 ابن ماجة برقم (2945)، والمستدرك (1/624) وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة في صحيحه (2712)، وقال الألباني ضعيف جداً أخرجه ابن ماجه وكذا الحاكم من طريق محمد بن عون عن نافع عن ابن عمر به ...، ثم علق على تصحيح الحاكم والذهبي لهذا الحديث فقال: ذلك من أوهامهما، فإن محمد بن عون هذا وهو الخراساني متفق على تضعيفه، بل هو ضعيف جداً، وقد أورده الذهبي نفسه في الضعفاء، وقال: قال النسائي متروك، وزاد في الميزان، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشئ. انظر إرواء الغليل (4/308-309).
3 زاد المعاد (2/265).
4 سير أعلام النبلاء (7/11).
5 سير أعلام النبلاء (18/279-280).
6 الطبقات الكبرى (6/72).
7 حليه الأولياء (2/95).
8 تهديب التهذيب (6/127).
9 مصنف ابن أبي شيبة (2/407).
10 سير أعلام النبلاء (4/392).
11 أخبار القضاة (2/212).
12 مسألة الطائفين للآجري (1/29).
13 مختصر منهاج القاصدين للمقدسي (4/188).
14 حلية الأولياء (9/262).