نزول القرآن في شهر رمضان
لا ريب أنَّ [من] أجلِّ نِعم الله على الإطلاق وأشرفِها وأعظمِها نعمةُ إنزالِه الكتاب العظيم على عبده ورسوله نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه نعمةٌ عظمَى ومنّة كبرى امتنّ الله بها على عباده وحمد نفسه عليها وتمدّح إلى عباده بها، وبيّن عظم شأنها في آيٍ كثيرة من القرآن.
يقول الله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، ويقول تعالى: {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ } ، ويقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيُن عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، ويقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} .
إنَّ لشهر رمضان الكريم شهر الصوم خصوصيةً بالقرآن، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم هدى للنّاس. وقد امتدح الله تعالى في الآية الكريمة المتقدّمة شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، بل قد ورد في الحديث بأنَّه الشهرُ الذي كانت الكتبُ الإلهيةُ تنزل فيه على الأنبياء، ففي المسند للإمام أحمد، والمعجم الكبير للطبراني، من حديث واثلة بن الأسقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنزلت صُحُفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراةُ لِسِتٍّ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث عشرةَ خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
قال الهيثمي: "وفيه عمران بن داود القطان، ضعّفه يحيى ووثّقه ابن حبان. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقيّة رجاله ثقات".
وله شاهدٌ من حديث جابر رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى في مسنده بنحو الحديث المتقدّم، وفي إسناده سفيان بن وكيع وهو ضعيف.
وله شاهدٌ آخر يرويه ابن عساكر في تاريخه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو منقطعٌ، فعليٌّ لم ير ابن عباس رضي الله عنهما.
فإن صحّ هذا الحديث فهو يدلّ على أنَّ شهر رمضان هو الشهر الذي كانت تنزل فيه الكتب الإلهية على الرسل عليهم السلام.
إلاّ أنّها كانت تنزل على النبيّ الذي أنزلت عليه جملةً واحدةً، وأمّا القرآن الكريم فلمزيد شرفه وعظيم فضله، فإنَّما نزل جملةً واحدةً إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ}، فدلّت هذه الآياتُ الثلاث على أنَّ القرآن الكريم أنزل في ليلةٍ واحدةٍ، توصف بأنَّها ليلةٌ مباركةٌ وهي ليلة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان المبارك، ثم بعد ذلك نزل مفرّقًا على مواقع النّجوم يتلو بعضه بعضًا، هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من غير وجه.
فروى الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النّجوم، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض".
وروى أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناَكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلِى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}").
وروى ابنُ أبي حاتم عن ابن عباس أنَّه سأله عطيّة بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك في قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}، وقد أنزل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرّم وصفر وشهر ربيع؟ فقال ابن عباس: "إنَّه نزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النّجوم ترتيلاً في الشّهور والأيّام".
إنَّ الحكمة في هذا النزول هي تعظيم القرآن الكريم وتعظيم أمر مَن نزل عليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الشهر الذي نزل فيه وهو شهر رمضان، واللَّيلة التي نزل فيها وهي ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ، لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}.
ثم إنَّ ما تقدّم لَيدلُّ أعظم دلالة على عظم شأن شهر الصوم، شهر رمضان المبارك، وأنَّ له خصوصية بالقرآن الكريم، إذ فيه حصل للأمّة من الله هذا الفضل العظيم، نزول وحيه العظيم، وكلامه الكريم المشتملِ على الهداية { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} الهداية لمصالح الدين والدنيا، وفيه تبيان الحقِّ بأوضح بيان، وفيه الفرقان بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والظلمات والنّور.
فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُه وهذا إحسانُ الله على عباده فيه أن يعظِّمه العباد وأن يكون موسمًا لهم للعبادة وزادًا ليوم المعاد.
وهذا فيه دلالةٌ بالغةٌ على استحباب دراسة القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، والاجتهاد في ذلك، والإكثار من تلاوته فيه، وعرض القرآن على من هو أحفظُ له، والزيادة في مدارسته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجودَ بالخير من الرّيح المرسلة".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وهذا أمرٌ يشرع لكل من أراد أن يزيد في القراءة ويطيل وكان يصلّي لنفسه فليطوّل ما شاء، وكذلك من صلّى بجماعة يرضون بصلاته، وأمّا سوى ذلك فالمشروع التخفيف، قال الإمامُ أحمدُ لبعض أصحابه وكان يصلّي بهم في رمضان: "هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسًا ستًّا سبعًا، قال فقرأت فختمتُ ليلة سبع وعشرين". فأرشدَه رحمه الله إلى أن يراعي حال المأمومين فلا يشقُّ عليهم.
وكان السَّلفُ رحمهم الله يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، فكان الأسود يقرأ القرآن في كلِّ ليلتين في رمضان.
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفي بقيّة الشهر في ثلاث.
وكان قتادة يختم في كلِّ سبع دائماً وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العشر الأواخر كلَّ ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.
والآثارُ عنهم في هذا المعنى كثيرة، رزقنا الله وإيّاكم حسن اتّباعهم والسير على آثارهم، ونسأله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
12/ المطلوب من القرآن فهمُ معانيه والعمل به
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
إنَّ تلاوة القرآن وتدبّره هي أعظم أبواب الهداية، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أنزل كتابه المبين على عباده هدى ورحمة وضياءً ونورًا وبشرى وذكرى للذّاكرين، وجعله مباركًا وهدى للعالمين، وجعل فيه شفاء من الأسقام ولا سِيَما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات، وجعله رحمة للعالمين، يهدي للتي هي أقوم، وصرّف فيه من الآيات والوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكرى.
قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرًى لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحِاَتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}.
ولهذا فإنَّ الله تبارك وتعالى أمر عباده وحثّهم على قراءة القرآن وتدبُّره في غير آية من القرآن، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وأخبر سبحانه أنَّه إنَّما أنزله لتُتدبر آياتُه، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ }، وبيّن سبحانه أنَّ سبب عدم هداية من ضلَّ عن الصراط المستقيم هو ترك تدبُّر القرآن والاستكبار عن سماعه فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ}، أي : أنَّهم لو تدبّروا القرآن لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر والعصيان، فدلّ ذلك على أنَّ تدبّر القرآن يدعو إلى كلِّ خير ويعصم من كلِّ شر.
ووصف الله القرآن بأنَّه أحسنُ الحديث، وأنَّه تعالى ثنى فيه من الآيات وردّد القول فيه ليفهم، وأنَّ جلود الأبرار عند سماعه تقشعرّ خشيةً وخوفاً فقال تعالى: { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ، ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذّرهم من مشابهة الكفّار في ذلك، فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينّ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، وأخبر سبحانه عن القرآن أنَّه يزيد المؤمنين إيمانًا إذا قرأوه وتدبّروا آياته فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وأخبر عن صالح أهل الكتاب أنَّ القرآن إذا تلي عليهم يخرّون للأذقان سُجَّداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً، فقال سبحانه: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} .
وأخبر سبحانه بأنَّه لو أنزل القرآن الكريم على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله عز وجل، وجعل هذا مثلاً للنّاس يبيِّن لهم عظمة القرآن وقوّة أثره فقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
ثم مع هذا فإنَّ الله تعالى قد حذّر عباده من الإعراض عن القرآن الكريم أشدَّ التحذير، وبيّن لهم خطورة ذلك، وما يجنيه مَن فَعلَ ذلك من الإثم والوزر الذي يحمله معه يوم القيامة بسبب إعراضه عن القرآن وعدم تلقّيه بالقبول والتسليم، يقول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ِحْملاً}، فإذا كان القرآن ذكرًا للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته، فيجب تلقّيه بالقبول والتسليم والانقياد والتعظيم، وأن يُهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم، وأن يُقبل عليه بالتعلّم والتعليم، وأما مقابلته بالإعراض والصدود، أو بما هو [أخطر] من ذلك من الإنكار والجحود، فإنَّه كفرُ لهذه النعمة يستحق فاعله العقوبة.
ولهذا قال تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً} ، وقوله في الآية: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} فيه وصف للقرآن الكريم بأنَّه ذكر، وقد مرّ معنا آيات كثيرة في هذا المعنى، وهذا يعني أنَّ القرآن الكريم فيه ذكر للأخبار السابقة واللاَّحقة، وذِكرٌ يُتَذكّرُ به ما لله تعالى من الأسماء والصفات الكاملة، ويتذكّر به أحكام الأمر والنهي وأحكام الجزاء، وهذا أيضا ممّا يدلّ على أنَّ القرآن مشتملٌ على أحسن ما يكون من الأحكام التي تشهد العقول والفطر بحسنها وكمالها.
إنَّ كتاباً هذا بعض شأنه لحريٌّ بكل مسلم أن يعظّمه ويقدره حق قدره، ويتلوه حق تلاوته بتدبر آياته والتفكر والتعقل لمعانيه، وبالعمل بما يقتضيه، وكما يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبّر والتفكّر فإنَّه جامعٌ لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرّ بآيةٍ وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مائة مرّة ولو ليلة، فقراءة آيةٍ بتفكّرٍ وتفهّمٍ خيرٌ من قراءة ختمةٍ بغير تدبّر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن". اهـ كلامه رحمه الله.
وهو كما ترى واف الدلالة عظيم الفائدة، ومن كان في قراءته للقرآن على هذا الوصف أثّر فيه القرآن غاية التأثير وانتفع بتلاوته تمام الانتفاع، وكان بذلك من أهل العلم والإيمان الراسخين، وهذا هو مقصود القرآن وغاية مطلوبه، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإنَّه إن لم تكن هذه همّة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين".
اللّهم وَفِّقنا لتحقيق ذلك على الوجه الذي يُرضيك عنّا يا ذا الجلال والإكرام.
13/ آدابُ حملة القرآن
لقد مرّ معنا بيان فضل القرآن الكريم، كلام ربّ العالمين وعظم شأن تلاوته وتدبّره، وما يترتّب على ذلك من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ وخيراتٍ عميمةٍ في الدنيا والآخرة، وسيكون الحديثُ هنا بإذن الله عن أخلاق حملة القرآن التي ينبغي أن يتحلوا بها، وآداب وصفات أهله التي ينبغي أن يتأدّبوا بها، ولا ريب في شرف هذا الموضوع وعظم شأنه وحاجتنا دائماً إلى تذاكره ومدارسته.
وقد كان أهلُ العلم وأئمّة الفضل والخير يولون هذا الموضوع عنايةً خاصةً ويعتنون به عنايةً فائقةً، إذ به تأتي ثمرة القرآن، وينال ما يترتّب عليه من أجورٍ عظيمةٍ وثوابٍ وإحسانٍ، وبدون هذه الآداب لا ينال التالي الثمرة المرجوة، ولا يحصل الخير العظيم والثواب الجزيل المأمول، بل ربَّما كان القرآن حجّةً عليه، وخصيماً له يوم القيامة.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "والقرآن حجّة لك أو عليك "، وكلاهما في صحيح مسلم.
فالقرآن حجَّةٌ لمن عمل به وتأدّب بآدابه، وأمّا من ضيّع حدوده وأهمل حقوقه، وفرّط في واجباته فإنَّ القرآن يكون حجّةً عليه يوم القيامة.
ولهذا يقول قتادة رحمه الله: "لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان". أي: بزيادة في الإيمان والخير إن عمل به، أو نقصان من ذلك إن أهمله وضيّع حقوقه.
لقد كتب أهلُ العلم في هذا الموضوع آدابِ وأخلاقِ حملة القرآن كتاباتٍ عظيمةً، وألّفوا في هذا الباب مؤلّفاتٍ قيِّمةً نافعةً، وهي عديدةٌ ومتنوِّعةٌ إلاَّ أنَّ من أحسنها وفاء بهذا الموضوع كتاب "أخلاق حملة القرآن" للإمام العلاّمة أبي بكر محمّد بن الحسين الآجري المتوفّى سنة (360هـ)، فهو كتابٌ عظيمُ القدر، جليل الفائدة، وحريٌّ بكل حافظ للقرآن الكريم بل بكل مسلم أن يقف عليه ويفيد منه.
وقد تحدّث فيه مؤلّفه رحمه الله قبل بيانه لآداب حملة القرآن عن فضل حملة القرآن، وفضل من تعلّم القرآن وعلّمه، وفضل الاجتماع في المسجد لدرس القرآن، وقصد رحمه الله من البدء بهذه الأبواب الترغيب في تلاوة القرآن والعمل به والاجتماع لمدارسته، ثم شرع بعد ذلك في بيان آداب حملة القرآن مستدلاًّ على كل ما يقول بالنّصوص القرآنية والأحاديث النبويّة والآثار المرويّة عن سلف الأمّة.
ولعلّنا نأتي هنا على جملةٍ طيِّبةٍ من هذه الآداب الكريمة والخلال العظيمة التي ينبغي أن يتحلّى بها أهل القرآن وحملته، بل ينبغي أن يتحلّى بها المسلمون جميعهم.
فمن هذه الآداب : أن يتحلّى صاحب القرآن بتقوى الله في سرِّه وعلنه، ويقصد بعلمه وعمله وجه الله تعالى، ويريد بتلاوته وحفظه القرب منه سبحانه.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أنَّ أحدًا يتعلّم القرآن يريد به إلاّ الله عز وجل، فلمّا كان هاهنا بأخرةٍ خشيتُ أنَّ رجالاً يتعلّمونه يريدون به النّاس وما عندهم فأريدوا اللهَ بقراءتكم وأعمالكم".
ومن هذه الآداب: أن يتخلّق بأخلاق القرآن الشريفة، ويتأدّب بآدابه الكريمة، ويجعل القرآن ربيعًا لقلبه يعمر به ما خرِب من قلبه، ويصلح به ما فسد منه، يؤدّب نفسه بالقرآن ويصلح به حاله ويقوّي به إيمانه، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.
فحاملُ القرآن يجعل القرآن دليله إلى كلِّ خير، ورائده إلى كلِّ خُلُقٍ حسنٍ جميلٍ، حافظًا لجميع جوارحه عمّا نهى الله عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، وإن تكلّم تكلّم بعلم، وإن شرب شرب بعلم، وإن أكل أكل بعلم، يتصفّح القرآن ويقرؤه ليؤدّب نفسه، وليهذّب به سلوكه، وليزيّن به عمله، وليقوِّيَ به إيمانه.
لهذا أُنزل القرآن الكريم، ولم ينزل للقراءة والتّلاوة فقط بدون العلم والعمل، قال الفضيل رحمه الله: "إنّما أنزل القرآن ليعمل به فاتّخذ النّاس قراءته عملاً".
ومعنى قولِه: لِيُعْمَلَ به: أي ليُحِلُّوا حلالَه ويحرِّموا حرامَه، فاتّخذ النّاس قراءته عملاً، أي لا يتدبّرونه ولا يعملون به.
ومن هذه الآداب: أن تكون همّة من يقرأ القرآن ايقاع الفهم لما ألزمه الله من اتّباع ما أمر والانتهاء عمّا نهى، ليس همّته متى أختم السورة، وإنّما همّته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصادقين، متى أعرف قدر النِّعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أتوب من الذنوب، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أكون بزجر القرآن متّعظًا، متى أكون بذكر الله عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحبُّ ما أحبَّ وأُبغض ما أبغضَ، فهذه همّته عند تلاوة القرآن.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من أجلّة التّابعين، يصف بعض قرّاء زمانه وهو بصدد بيان أهمّيّة تدبّر القرآن والتفقه فيه، يقول: "أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إنَّ أحدهم ليقول: إنّي لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القرّاء مثل هذا، لا كثَّر الله في النّاس مثل هؤلاء".
هذه بعض آداب حملة القرآن ممّا أورده الآجريُّ رحمه الله في كتابه المشار إليه، وقد أنهى ذكره لتلك الآداب بقوله: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذّره مولاه حذره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة".
واللهَ المرجو أن يوفّقنا وإيّاكم لذلك ولكلِّ خير والله وحده المستعان.
لا ريب أنَّ [من] أجلِّ نِعم الله على الإطلاق وأشرفِها وأعظمِها نعمةُ إنزالِه الكتاب العظيم على عبده ورسوله نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه نعمةٌ عظمَى ومنّة كبرى امتنّ الله بها على عباده وحمد نفسه عليها وتمدّح إلى عباده بها، وبيّن عظم شأنها في آيٍ كثيرة من القرآن.
يقول الله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، ويقول تعالى: {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلاَ للهِ الدِّينُ الخَالِصُ } ، ويقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِيُن عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، ويقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} .
إنَّ لشهر رمضان الكريم شهر الصوم خصوصيةً بالقرآن، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم هدى للنّاس. وقد امتدح الله تعالى في الآية الكريمة المتقدّمة شهرَ الصيام من بين سائر الشهور بأن اختاره من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، بل قد ورد في الحديث بأنَّه الشهرُ الذي كانت الكتبُ الإلهيةُ تنزل فيه على الأنبياء، ففي المسند للإمام أحمد، والمعجم الكبير للطبراني، من حديث واثلة بن الأسقع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُنزلت صُحُفُ إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراةُ لِسِتٍّ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث عشرةَ خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
قال الهيثمي: "وفيه عمران بن داود القطان، ضعّفه يحيى ووثّقه ابن حبان. وقال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث، وبقيّة رجاله ثقات".
وله شاهدٌ من حديث جابر رضي الله عنه أخرجه أبو يعلى في مسنده بنحو الحديث المتقدّم، وفي إسناده سفيان بن وكيع وهو ضعيف.
وله شاهدٌ آخر يرويه ابن عساكر في تاريخه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو منقطعٌ، فعليٌّ لم ير ابن عباس رضي الله عنهما.
فإن صحّ هذا الحديث فهو يدلّ على أنَّ شهر رمضان هو الشهر الذي كانت تنزل فيه الكتب الإلهية على الرسل عليهم السلام.
إلاّ أنّها كانت تنزل على النبيّ الذي أنزلت عليه جملةً واحدةً، وأمّا القرآن الكريم فلمزيد شرفه وعظيم فضله، فإنَّما نزل جملةً واحدةً إلى بيت العزّة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك. قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ}، فدلّت هذه الآياتُ الثلاث على أنَّ القرآن الكريم أنزل في ليلةٍ واحدةٍ، توصف بأنَّها ليلةٌ مباركةٌ وهي ليلة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان المبارك، ثم بعد ذلك نزل مفرّقًا على مواقع النّجوم يتلو بعضه بعضًا، هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من غير وجه.
فروى الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النّجوم، وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض".
وروى أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: "أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناَكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً}، {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلِى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}").
وروى ابنُ أبي حاتم عن ابن عباس أنَّه سأله عطيّة بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك في قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}، وقد أنزل في شوّال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرّم وصفر وشهر ربيع؟ فقال ابن عباس: "إنَّه نزل في رمضان في ليلة القدر، وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النّجوم ترتيلاً في الشّهور والأيّام".
إنَّ الحكمة في هذا النزول هي تعظيم القرآن الكريم وتعظيم أمر مَن نزل عليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم الشهر الذي نزل فيه وهو شهر رمضان، واللَّيلة التي نزل فيها وهي ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، يقول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ، لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ}.
ثم إنَّ ما تقدّم لَيدلُّ أعظم دلالة على عظم شأن شهر الصوم، شهر رمضان المبارك، وأنَّ له خصوصية بالقرآن الكريم، إذ فيه حصل للأمّة من الله هذا الفضل العظيم، نزول وحيه العظيم، وكلامه الكريم المشتملِ على الهداية { هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ} الهداية لمصالح الدين والدنيا، وفيه تبيان الحقِّ بأوضح بيان، وفيه الفرقان بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والظلمات والنّور.
فحقيقٌ بشهرٍ هذا فضلُه وهذا إحسانُ الله على عباده فيه أن يعظِّمه العباد وأن يكون موسمًا لهم للعبادة وزادًا ليوم المعاد.
وهذا فيه دلالةٌ بالغةٌ على استحباب دراسة القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، والاجتهاد في ذلك، والإكثار من تلاوته فيه، وعرض القرآن على من هو أحفظُ له، والزيادة في مدارسته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أجودَ النّاس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجودَ بالخير من الرّيح المرسلة".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وهذا أمرٌ يشرع لكل من أراد أن يزيد في القراءة ويطيل وكان يصلّي لنفسه فليطوّل ما شاء، وكذلك من صلّى بجماعة يرضون بصلاته، وأمّا سوى ذلك فالمشروع التخفيف، قال الإمامُ أحمدُ لبعض أصحابه وكان يصلّي بهم في رمضان: "هؤلاء قوم ضعفى اقرأ خمسًا ستًّا سبعًا، قال فقرأت فختمتُ ليلة سبع وعشرين". فأرشدَه رحمه الله إلى أن يراعي حال المأمومين فلا يشقُّ عليهم.
وكان السَّلفُ رحمهم الله يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها، فكان الأسود يقرأ القرآن في كلِّ ليلتين في رمضان.
وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفي بقيّة الشهر في ثلاث.
وكان قتادة يختم في كلِّ سبع دائماً وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العشر الأواخر كلَّ ليلة.
وكان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويُقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان.
وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على تلاوة القرآن.
والآثارُ عنهم في هذا المعنى كثيرة، رزقنا الله وإيّاكم حسن اتّباعهم والسير على آثارهم، ونسأله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه.
12/ المطلوب من القرآن فهمُ معانيه والعمل به
يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
إنَّ تلاوة القرآن وتدبّره هي أعظم أبواب الهداية، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أنزل كتابه المبين على عباده هدى ورحمة وضياءً ونورًا وبشرى وذكرى للذّاكرين، وجعله مباركًا وهدى للعالمين، وجعل فيه شفاء من الأسقام ولا سِيَما أسقام القلوب وأمراضها من شبهات وشهوات، وجعله رحمة للعالمين، يهدي للتي هي أقوم، وصرّف فيه من الآيات والوعيد لعلّهم يتّقون أو يحدث لهم ذكرى.
قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرًى لِلْمُسْلِمِينَ}، وقال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحِاَتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً }، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً}.
ولهذا فإنَّ الله تبارك وتعالى أمر عباده وحثّهم على قراءة القرآن وتدبُّره في غير آية من القرآن، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ، وأخبر سبحانه أنَّه إنَّما أنزله لتُتدبر آياتُه، فقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ }، وبيّن سبحانه أنَّ سبب عدم هداية من ضلَّ عن الصراط المستقيم هو ترك تدبُّر القرآن والاستكبار عن سماعه فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ}، أي : أنَّهم لو تدبّروا القرآن لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر والعصيان، فدلّ ذلك على أنَّ تدبّر القرآن يدعو إلى كلِّ خير ويعصم من كلِّ شر.
ووصف الله القرآن بأنَّه أحسنُ الحديث، وأنَّه تعالى ثنى فيه من الآيات وردّد القول فيه ليفهم، وأنَّ جلود الأبرار عند سماعه تقشعرّ خشيةً وخوفاً فقال تعالى: { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ، ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
وعاتب سبحانه المؤمنين على عدم خشوعهم عند سماع القرآن، وحذّرهم من مشابهة الكفّار في ذلك، فقال سبحانه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينّ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، وأخبر سبحانه عن القرآن أنَّه يزيد المؤمنين إيمانًا إذا قرأوه وتدبّروا آياته فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وأخبر عن صالح أهل الكتاب أنَّ القرآن إذا تلي عليهم يخرّون للأذقان سُجَّداً يبكون ويزيدهم خشوعاً وإيماناً وتسليماً، فقال سبحانه: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} .
وأخبر سبحانه بأنَّه لو أنزل القرآن الكريم على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله عز وجل، وجعل هذا مثلاً للنّاس يبيِّن لهم عظمة القرآن وقوّة أثره فقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
ثم مع هذا فإنَّ الله تعالى قد حذّر عباده من الإعراض عن القرآن الكريم أشدَّ التحذير، وبيّن لهم خطورة ذلك، وما يجنيه مَن فَعلَ ذلك من الإثم والوزر الذي يحمله معه يوم القيامة بسبب إعراضه عن القرآن وعدم تلقّيه بالقبول والتسليم، يقول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ِحْملاً}، فإذا كان القرآن ذكرًا للرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمّته، فيجب تلقّيه بالقبول والتسليم والانقياد والتعظيم، وأن يُهتدى بنوره إلى الصراط المستقيم، وأن يُقبل عليه بالتعلّم والتعليم، وأما مقابلته بالإعراض والصدود، أو بما هو [أخطر] من ذلك من الإنكار والجحود، فإنَّه كفرُ لهذه النعمة يستحق فاعله العقوبة.
ولهذا قال تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً} ، وقوله في الآية: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} فيه وصف للقرآن الكريم بأنَّه ذكر، وقد مرّ معنا آيات كثيرة في هذا المعنى، وهذا يعني أنَّ القرآن الكريم فيه ذكر للأخبار السابقة واللاَّحقة، وذِكرٌ يُتَذكّرُ به ما لله تعالى من الأسماء والصفات الكاملة، ويتذكّر به أحكام الأمر والنهي وأحكام الجزاء، وهذا أيضا ممّا يدلّ على أنَّ القرآن مشتملٌ على أحسن ما يكون من الأحكام التي تشهد العقول والفطر بحسنها وكمالها.
إنَّ كتاباً هذا بعض شأنه لحريٌّ بكل مسلم أن يعظّمه ويقدره حق قدره، ويتلوه حق تلاوته بتدبر آياته والتفكر والتعقل لمعانيه، وبالعمل بما يقتضيه، وكما يقول العلاّمة ابن القيِّم رحمه الله: "فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبّر والتفكّر فإنَّه جامعٌ لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والرضا والتفويض والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه. فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبّر لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مرّ بآيةٍ وهو محتاجٌ إليها في شفاء قلبه كرّرها ولو مائة مرّة ولو ليلة، فقراءة آيةٍ بتفكّرٍ وتفهّمٍ خيرٌ من قراءة ختمةٍ بغير تدبّر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن". اهـ كلامه رحمه الله.
وهو كما ترى واف الدلالة عظيم الفائدة، ومن كان في قراءته للقرآن على هذا الوصف أثّر فيه القرآن غاية التأثير وانتفع بتلاوته تمام الانتفاع، وكان بذلك من أهل العلم والإيمان الراسخين، وهذا هو مقصود القرآن وغاية مطلوبه، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإنَّه إن لم تكن هذه همّة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين".
اللّهم وَفِّقنا لتحقيق ذلك على الوجه الذي يُرضيك عنّا يا ذا الجلال والإكرام.
13/ آدابُ حملة القرآن
لقد مرّ معنا بيان فضل القرآن الكريم، كلام ربّ العالمين وعظم شأن تلاوته وتدبّره، وما يترتّب على ذلك من أجورٍ عظيمةٍ وأفضالٍ كريمةٍ وخيراتٍ عميمةٍ في الدنيا والآخرة، وسيكون الحديثُ هنا بإذن الله عن أخلاق حملة القرآن التي ينبغي أن يتحلوا بها، وآداب وصفات أهله التي ينبغي أن يتأدّبوا بها، ولا ريب في شرف هذا الموضوع وعظم شأنه وحاجتنا دائماً إلى تذاكره ومدارسته.
وقد كان أهلُ العلم وأئمّة الفضل والخير يولون هذا الموضوع عنايةً خاصةً ويعتنون به عنايةً فائقةً، إذ به تأتي ثمرة القرآن، وينال ما يترتّب عليه من أجورٍ عظيمةٍ وثوابٍ وإحسانٍ، وبدون هذه الآداب لا ينال التالي الثمرة المرجوة، ولا يحصل الخير العظيم والثواب الجزيل المأمول، بل ربَّما كان القرآن حجّةً عليه، وخصيماً له يوم القيامة.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " إنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين". وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "والقرآن حجّة لك أو عليك "، وكلاهما في صحيح مسلم.
فالقرآن حجَّةٌ لمن عمل به وتأدّب بآدابه، وأمّا من ضيّع حدوده وأهمل حقوقه، وفرّط في واجباته فإنَّ القرآن يكون حجّةً عليه يوم القيامة.
ولهذا يقول قتادة رحمه الله: "لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان". أي: بزيادة في الإيمان والخير إن عمل به، أو نقصان من ذلك إن أهمله وضيّع حقوقه.
لقد كتب أهلُ العلم في هذا الموضوع آدابِ وأخلاقِ حملة القرآن كتاباتٍ عظيمةً، وألّفوا في هذا الباب مؤلّفاتٍ قيِّمةً نافعةً، وهي عديدةٌ ومتنوِّعةٌ إلاَّ أنَّ من أحسنها وفاء بهذا الموضوع كتاب "أخلاق حملة القرآن" للإمام العلاّمة أبي بكر محمّد بن الحسين الآجري المتوفّى سنة (360هـ)، فهو كتابٌ عظيمُ القدر، جليل الفائدة، وحريٌّ بكل حافظ للقرآن الكريم بل بكل مسلم أن يقف عليه ويفيد منه.
وقد تحدّث فيه مؤلّفه رحمه الله قبل بيانه لآداب حملة القرآن عن فضل حملة القرآن، وفضل من تعلّم القرآن وعلّمه، وفضل الاجتماع في المسجد لدرس القرآن، وقصد رحمه الله من البدء بهذه الأبواب الترغيب في تلاوة القرآن والعمل به والاجتماع لمدارسته، ثم شرع بعد ذلك في بيان آداب حملة القرآن مستدلاًّ على كل ما يقول بالنّصوص القرآنية والأحاديث النبويّة والآثار المرويّة عن سلف الأمّة.
ولعلّنا نأتي هنا على جملةٍ طيِّبةٍ من هذه الآداب الكريمة والخلال العظيمة التي ينبغي أن يتحلّى بها أهل القرآن وحملته، بل ينبغي أن يتحلّى بها المسلمون جميعهم.
فمن هذه الآداب : أن يتحلّى صاحب القرآن بتقوى الله في سرِّه وعلنه، ويقصد بعلمه وعمله وجه الله تعالى، ويريد بتلاوته وحفظه القرب منه سبحانه.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: "لقد أتى علينا حينٌ وما نرى أنَّ أحدًا يتعلّم القرآن يريد به إلاّ الله عز وجل، فلمّا كان هاهنا بأخرةٍ خشيتُ أنَّ رجالاً يتعلّمونه يريدون به النّاس وما عندهم فأريدوا اللهَ بقراءتكم وأعمالكم".
ومن هذه الآداب: أن يتخلّق بأخلاق القرآن الشريفة، ويتأدّب بآدابه الكريمة، ويجعل القرآن ربيعًا لقلبه يعمر به ما خرِب من قلبه، ويصلح به ما فسد منه، يؤدّب نفسه بالقرآن ويصلح به حاله ويقوّي به إيمانه، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}.
فحاملُ القرآن يجعل القرآن دليله إلى كلِّ خير، ورائده إلى كلِّ خُلُقٍ حسنٍ جميلٍ، حافظًا لجميع جوارحه عمّا نهى الله عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، وإن تكلّم تكلّم بعلم، وإن شرب شرب بعلم، وإن أكل أكل بعلم، يتصفّح القرآن ويقرؤه ليؤدّب نفسه، وليهذّب به سلوكه، وليزيّن به عمله، وليقوِّيَ به إيمانه.
لهذا أُنزل القرآن الكريم، ولم ينزل للقراءة والتّلاوة فقط بدون العلم والعمل، قال الفضيل رحمه الله: "إنّما أنزل القرآن ليعمل به فاتّخذ النّاس قراءته عملاً".
ومعنى قولِه: لِيُعْمَلَ به: أي ليُحِلُّوا حلالَه ويحرِّموا حرامَه، فاتّخذ النّاس قراءته عملاً، أي لا يتدبّرونه ولا يعملون به.
ومن هذه الآداب: أن تكون همّة من يقرأ القرآن ايقاع الفهم لما ألزمه الله من اتّباع ما أمر والانتهاء عمّا نهى، ليس همّته متى أختم السورة، وإنّما همّته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصادقين، متى أعرف قدر النِّعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أتوب من الذنوب، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أكون بزجر القرآن متّعظًا، متى أكون بذكر الله عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحبُّ ما أحبَّ وأُبغض ما أبغضَ، فهذه همّته عند تلاوة القرآن.
يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله وهو من أجلّة التّابعين، يصف بعض قرّاء زمانه وهو بصدد بيان أهمّيّة تدبّر القرآن والتفقه فيه، يقول: "أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كلّه، ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إنَّ أحدهم ليقول: إنّي لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقرّاء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، متى كانت القرّاء مثل هذا، لا كثَّر الله في النّاس مثل هؤلاء".
هذه بعض آداب حملة القرآن ممّا أورده الآجريُّ رحمه الله في كتابه المشار إليه، وقد أنهى ذكره لتلك الآداب بقوله: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذّره مولاه حذره، وما خوّفه به من عقابه خافه، وما رغّبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته، وكان له القرآنُ شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كلُّ خير في الدنيا والآخرة".
واللهَ المرجو أن يوفّقنا وإيّاكم لذلك ولكلِّ خير والله وحده المستعان.