صفات الخطيب
إن الخطبة كاللباس المفصل على الجسد لا يظهر جماله ولا يحسن منظره إلا بقدر انسجامه مع بدن لابسه؛ ولا يكفي لتحقق الخطبة مقصودها ولتؤتي أكلها استيفاؤها عناصرها، بل لابد من الانسجام بين الخطيب وخطبته؛ وكم من خطبة مؤثرة إذا ألقاها غير صاحبها أصابت سامعها بالملل والسآمة، وما ذاك إلا لافتقار الانسجام والموافقة بين الخطيب وخطبته، ونعرض فيما يلي جملة من هذه الصفات والآداب التي ينبغي للخطيب أن يتحلى بها:
أولاً: صفات الخطيب:
يمكن تقسيم الصفات المطلوب توفرها في الخطيب إلى نوعين:
النوع الأول: صفات وهبية أو فطرية:
ويقصد بها الصفات التي جُبل عليها ولم يُبذل في تحصيلها دراسة أو مران أو دربة.
وهذه الصفات قسمان:
القسم الأول: صفات ضرورية: ولا غنى عنها للخطيب الكامل وهي:
1- طلاقة اللسان: فاللسان أداة الخطيب الأولى، وطلاقته ألزم صفاته وأشدها أثراً في نجاحه، وقد بالغ بعض الناس حتى عدها ركن الخطابة الوحيد.
2- رباطة الجأش: يجب أن يكون مطمئن النفس واثقاً من نفسه ثابتاً غير مضطرب، فالمستمعون إن أحسوا بضعفه واضطرابه صغر في نظرهم، وهان كلامه في أعينهم، كما أن الاضطراب يورث الحيرة والدهش وهما يورثان الحبسة والحصر.
وهذه الصفة وإن كانت وهبية في أصلها؛ إلا أنه يمكن تنميتها واكتسابها بالدربة.
3- جهارة الصوت وحسنه: وهذه من الصفات الضرورية التي تمكن الخطيب من الاستيلاء على نفوس السامعين وجلب إصغائهم إليه، وهذه الصفات وإن كانت فطرية إلا أنه يمكن اكتساب بعضها كجهارة الصوت بتدريب الحنجرة وترويضها على الصوت المرتفع، ولا نعني بجهارة الصوت الصراخ الذي يسبب نفور المستمعين.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم...
4- سرعة البديهة: حتى إذا وجد من القوم إعراضاً أو تعرض لموقف محرج أسعفته بديهته بالخروج من محنته وأزمته وإلا ضاعت الخطبة وآثارها.
وهذه الصفة ترجع إلى حدة ذكاء الخطيب وشدة انتباهه وطول تجربته إضافة إلى ثقته بنفسه وقدرته على السيطرة على الموقف دونما ضعف أو خوف.
والخطيب إذا واجه سؤالاً لا تحضره إجابته فعليه ألا يتحرج ويظهر ارتباكه ويمكنه الخروج من هذا الموقف بأن يقول للسائل: أعده علي بعد الخطبة أو نحو ذلك.
وإذا واجه اعتراضاً لا يمكن الرد عليه فخير له التغافل عنه والاستمرار دون أن يعير قائله اهتماماً.
وربما يتعرض الخطيب لموقف صعب غير متوقع يحتاج إلى أخذ قرار سريع ومناسب، كانقطاع التيار مثلاً، أو إغماء أحد المصلين أو تشنجه أو موته، والخطيب إذا لم يكن هيأ نفسه لمثل هذه المواقف ومعرفة التصرف الشرعي الصحيح فيها وأعد القرار المناسب لكل منها حسب ما تقتضيه الظروف والمصلحة فلا شك أن ذلك يكون سبباً لارتباكه أو ربما لاتخاذ قرار خاطئ مثل ترك هذا المغمى عليه دون إسعاف له ثم العودة إلى خطبته أو قطعها إذا لزم الأمر.
5- رجاحة العقل: وهذه الصفة لازمة للخطيب ولغيره من المربين والموجهين، وبها يتمكن من البحث المركّز والملاحظة الدقيقة والاستنباط الصحيح وحسن المقارنة والموازنة بين الأشياء والمعرفة بطبائع الأشياء والأشخاص والأحداث.
القسم الثاني: صفات تكميلية:
وهذه الصفات دون الأولى في لزومها، ولكن على قدر توافرها في الخطيب تكون منزلته، وبها تتفاوت مراتب الخطباء ومنازلهم، ومن هذه الصفات:
1- قوة العاطفة:
فليست النائحة الثكلى كالمستعارة، ولا يعرف الشوق من لم يكابده، ولا الصبابة من لا يعانيها، وإذا لم يكن الخطيب جياش العاطفة حي المشاعر رقيق القلب مرهف الإحساس خرجت كلماته ميتة لا حياة فيها ولا روح، وكان أشبه بالنائحة المستعارة، ولم تتجاوز كلماته الآذان فالعاطفة للخطبة كالروح بالنسبة للجسد، لكن ينبغي أن تكون هذه العاطفة موزونة بالعقل الرشيد، والرأي السديد، وأن تكون خاضعة وموافقة لأحكام الشرع المجيد.
2- النفوذ وقوة الشخصية:
وهذه هبة من الوهاب العليم يهبها بعض الناس فتشعر منه بقوة الروح وعظم النفس، وهذه الصفة في الخطيب تكسب كلماته ونظراته وصوته قوة ونفاذاً وتأثيراً عظيماً في الجماهير، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم من رآه بديهة هابه، ومن عاشره خلطة أحبه.
وإذا كانت هذه منحة ربانية وهبة لا دخل للعبد فيها إلا أن هناك أسباباً وعوامل تضعفها أو تقويها، فمما يضعفها تبذل الخطيب بثيابه ووقوعه في رذائل الأعمال والأخلاق، ومزاحه الكثير أو القليل كما سيأتي بيانه في آداب الخطيب إن شاء الله.
النوع الثاني من صفات الخطيب: صفات كسبية:
وهذه الصفات ينالها الخطيب بالدراسة والمران والدربة، وهذه الصفات هي:
أولاً: العلم والاطلاع :
وهي أولى الصفات وأهمها على الإطلاق، فقد بدأ الله بالعلم قبل العمل فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} وهو البصيرة التي جعلها شرطاً لاتباع سبيل نبيه {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}. والخطيب مربٍ ومعلم وموجه، وإذا لم يكن عالماً مطلعاً كان ضرره أكبر من نفعه، بل لم يكن فيه نفع ألبتة، والعلم درجات ومنازل، منها الضروري ومنها التكميلي.
أما العلوم الضرورية اللازمة للخطيب فهي:
1 ـ علوم القرآن والسنة:
وهذا هو لب بضاعة الخطيب ورأس ماله، فالخطيب داعية إلى الله ولا يمكن أن يهدي الناس ويعلمهم ويرشدهم بعيداً عن الكتاب والسنة وقد قال صلى الله عليه وسلم محذراً من صنيع أولئك الذين يدعون بعيداً عن الكتاب والسنة وأن ذلك من الدخن فقال في وصفهم: ((قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي)).
أ) الخطيب والقرآن:
لاشك أن حافظ القرآن عن ظهر قلب أقدر على استحضار الآيات والاستشهاد بها وأن هذه الصفة من صفات الكمال للخطيب، ولكن لاشك أن هناك قدراً ضرورياً لا غنى للخطيب عنه، هذا القدر يتعلق أولاً بالقدرة على التلاوة الصحيحة السليمة لكتاب الله عز وجل بغير لحن، ثم القدرة على استحضار الآيات المتعلقة بموضوع خطبته ومعرفة أقوال أهل العلم في تفسيرها والتمييز بين الصحيح والسقيم، والإسرائيليات والموضوعات وغيرها.
وليحذر الخطيب في أن يقحم الآيات في غير محلها أو يصرفها عن غير وجهها أو يخضعها للنظريات العلمية والاكتشافات العصرية أو يخضعها لواقعه الزمني أو المكاني إذا كان مخالفاً لدين الله.
ب) الخطيب والسنة النبوية:
وكما قلنا في القرآن فالقول في السنة النبوية وهي تشمل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وأوصافه وسيرته عليه الصلاة والسلام، ولكن التأكيد هنا أشد في الحذر من الأحاديث الضعيفة1، والموضوعة، فهذا مما عمت به البلوى وقل من يسلم منه.
راجع بحث الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال.
2 ـ علم العقيدة:
والمقصود من هذا العلم أن يكون الخطيب على دراية تامة بالعقيدة الصحيحة عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، وكذلك معرفة الفرق المخالفة لها والموقف الصحيح منها.
ولا نعني بذلك الدراسة النظرية المجردة المتعلقة بحفظ المتون والشروح بعيداً عن التحرك بهذه العقيدة وفهمها والتحرك في إطارها ومن خلالها.
وإذا لم يكن الخطيب على دراية بهذه المسألة، فربما نصر الباطل وأعلى شأنه متأثراً بحماسة هوجاء أو عاطفة معماة وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
مثال تعاطف مشاهير الخطباء مع ثورة الخميني وذلك لجهلهم.
ومن المضحك المبكي ما سمعناه من كثير من الدعاة المبرزين في الثناء على ثورة الرافضة وإمامهم، وما ذلك إلا للجهل بعقيدتهم وضلالتهم..
3 ـ العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالإمامة والصلاة:
وهذه الصفة فرع عن الصفة الأولى ولكن أفردناها لأهميتها والتنبيه عليها، فينبغي أن يكون عالماً بأحكام الخطبة والصلاة وشرائطهما ومصححاتهما ومبطلاتهما وجوابرهما وكيفياتهما وتكميلاتهما.
ولا يشترط أن يكون عالماً مجتهداً مطلقاً ولا مقيداً، ولا أن يكون مفتياً في جميع الأحكام ولا حبراً لجميع الأنام، فإن ذلك من صفات الكمال، لا من صفات الصحة والإبطال1.
وأما العلوم التكميلية فمنها:
1- علم الرقاق والأخلاق:
ونقصد به العلم المستقى من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح وسيرتهم بعيداً عن شطحات الصوفية وأفكارها المنحرفة وسلوكها الضال.
وإذا كان هذا اعتقادنا في الصوفية وأفكارها؛ إلا أننا نأخذ في الاعتبار التفريق بين الصوفية الأولى والتي ينسب إليها عباد أهل البصرة – كالحسن البصري والجنيد وغيرهم من العباد والزهاد، وبين غيرهم من المبتدعة والضلال والذين لم يرثوا من القوم إلا الاسم والرسم.
مع اعتقادنا أن خير الهدي وأكمله هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم.
أدب الخطيب ص91 بتصرف يسير.
لكن حال هؤلاء وعبادتهم وخشيتهم وزهدهم وورعهم وعبادتهم مع ما نقل في وصفها من مبالغة أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده شيء من ذلك.
فلا ينبغي الإعراض عن سيرة هؤلاء وأقوالهم وأحوالهم، بل العدل يقتضي الإفادة منها.
وحاجة الخطيب إلى ما يحرك المشاعر ويثير العواطف ويهيج الأحاسيس حاجة ماسة، إذ إنه بذلك يستطيع توجيه الناس للعمل وعلاج أمراضهم واستخلاص آفاتهم وإخراجهم من الطور النظري إلى الطور العملي الذي هو مقصود التوجيه والوعظ.
وينبغي للخطيب الحذر من الشطط والمبالغة في هذا الجنب وليتحر الكتب التي تحقق له مقصوده من خلال النظرة السنية السلفية ككتب ابن القيم وابن تيمية رحمهما الله تعالى.
2- علم التاريخ:
فالتاريخ ودراسته يوسع آفاق الخطيب ويطلعه على أحوال الأمم وسير الرجال وتقلب الأيام بها وبهم، وفيه يرى سنن الله الكونية وعاقبة الأمم والمجتمعات والحضارات، وانتصار أو انهزام الدعوات. فالتاريخ مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى ونهاية الكفر والفجور، فهو أصدق شاهد على دعوة الرسل وأتباعهم، وقد لفت الله عز وجل في كتابه إلى أهمية القصص والاتعاظ بأحوال السابقين فقال: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل...}. وقال: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد.. }. وقال: {لقد كان في قصصهم عبرة...}.
والخطيب والداعية إذا أحسن دراسة التاريخ والإفادة منه كان أعون له في تثبيت المعاني والقيم التي يدعو إليها لا سيما إذا تماثلت الظروف وتشابهت الدوافع.
إذا أضفنا إلى ذلك أن كثيراً من القضايا المعاصرة لها جذورها التاريخية وأصولها السحيقة، ولا يستطيع فهم الأحداث وتفسيرها من غفل عن هذه الأصول والجذور، فلا يدرك حقيقة الصراع وطبيعته اليوم في فلسطين ودور القوى الكافرة فيه، من ينظر إليه بمعزل عن الصراع بين اليهود والنصارى من جهة، والمسلمين من جهة أخرى، وهكذا في الصراعات الدائرة في البوسنة وكوسوفا والشيشان وغيرها.
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى المنهج الصحيح في دراسة التاريخ والاستقاء منه والحذر من الروايات غير الموثقة، فليس كل ما تحويه كتب التاريخ صحيحاً مائة في المائة، فكم حوت مراجع التاريخ من مبالغات وتشويهات وتحريفات، ربما كان وراءها أهواء وعصبيات سياسية أو دينية أو مذهبية.
وكذا يجب الحذر من الاعتماد على كتّاب غير مسلمين من منصرين أو مستشرقين وغيرهم، وكتابات غير أهل السنة والجماعة ممن عرف عنهم فكر منحرف أو عداء للسنة وأهلها.
3- العلم باللغة والأدب:
ويكفي لمعرفة أهمية هذا العلم أن يستمع من له بعض الدراية باللغة ومفرداتها لكثير من الخطباء بل أكثر الخطباء تجد المنصوب عنده مرفوعاً، والمرفوع منصوباً أو مجروراً، والمجرور مرفوعاً أو منصوباً، وربما سار بعضهم على وتيرة واحدة، فينصب كل ما ينطق به لسانه، وربما رفعه كله أو جره، وهكذا يخرج المرء من الخطبة، وقد تأذى سمعه واقشعر جلده واضطرب قلبه.
بل ربما تمنى صاحبنا أن لو كان لا يعلم عن اللغة شيئاً حتى يتسنى له الاستفادة من الخطبة والاتعاظ بها.
وأما الأدب بشعره ونثره وأمثاله وحكمه فهو نافذة الخطيب على الروائع والشوامخ، به يثقف لسانه ويجود أسلوبه ويرهف حسه، ومنه يحصل العبارات الرائقة والأساليب الفائقة والصور المعبرة والأمثال السائرة والحكم البالغة مما يعينه على إيصال المعنى لطبقات السامعين على اختلاف مشاربهم ومآكلهم ومواردهم.
وهذا يتأتى بالنظر في أقوال البلغاء والتأمل في مناحي التأثير وأسرار البلاغة.
ومن الكتب التي تعين على ذلك كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وصبح الأعشى للقلقشندي مع الانتباه إلى الحذر من الإغراب في الألفاظ والعبارات، والانسياق وراء السجع ومبالغات الأدباء.
4- العلوم الإنسانية:
ومنها علوم النفس والاجتماع ونحوها مما له علاقة وثيقة بموضوع الدعوة والخطابة وهو الإنسان على اختلاف طباعه وخصائصه وثقافاته، والإلمام بهذه العلوم يعين على فهم الناس وطبائعهم وأمزجتهم ومناحي التأثير والتوجيه فيهم.
ولكن ينبغي التنبه والحذر من الإغراق في هذه العلوم وتلقيها من غير أصحاب العقيدة الصحيحة إلا إذا كان لديه من العلم والقدرة ما يميز به الغث من السمين، إذ إن غالب هذه العلوم للأسف الشديد شابها نزغات الفلاسفة والمناطقة من غير أهل الإسلام أو من أهل الإسلام الذين تبنوا المذاهب الكلامية التي على غير منهج السلف.
ومن هذه العلوم:
أ) علم النفس:
ونقصد به العلم التجريبي الذي انتهت إليه الدراسات النفسية الحديثة القائم على الدراسة العلمية المنهجية للظواهر النفسية على أساس الملاحظة والتجربة والقياس والاختبار، ولا نقصد به ذاك الذي كان جزءاً من أجزاء الفلسفة أو ما اشتهرت به مدرسة التحليل النفسي وما انبثق عنه من نظريات باطلة لا دليل عليها.
وهذا العلم تكمن أهميته في إعانة الخطيب والداعية على فهم نفسية من يتوجه إليهم بالخطاب وما يؤثر فيهم ويشغل اهتماماتهم، وهل قول ابن مسعود لما قيل له: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال: ((أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)) هل هذا القول إلا من هذه المشكاة، بل هو أصل في هذه المشكاة؟
ب) علم الاجتماع:
وهو العلم الذي يُعنى بدراسة المجتمع البشري في مختلف جوانبه، ويعمل على تحليل ظواهره والكشف عن القوانين التي تحكم مسيرته.
وهذا العلم له مدارس عديدة واتجاهات متباينة، لكل منها مناهجه في البحث والتحليل، ويحسن بالداعية والخطيب أن يطلع على نبذة من أصول هذا العلم وأهم مقرراته وأحدث ما انتهى إليه رجاله.
ويجب الانتباه إلى ضرورة تناول أسس هذا العلم من منظور إسلامي ووفق العقيدة الصحيحة.
5- الإلمام بأصول الثقافة المعاصرة:
فالمسلم اليوم يعيش في عالم مفتوح، ما يجري في مشرقه يتم الاطلاع عليه وسماعه وقراءته في يومه، بل ربما في ساعته، والإعلام اليوم ومن يقفون وراءه غالباً ما يمثلون المبادئ المخالفة للإسلام من يهود ونصارى وعلمانيين ومن على شاكلتهم، وهؤلاء يوجهون الدفة إلى حيث يريدون أن يغرسوا أذهان الناس وعقولهم خاصة أهل الإسلام.
وكثير من الناس لا يعرفون إلا ما تخاطبهم به هذه الوسائل، ويتلقونها ويرونها حقائق مسلمة لا تقبل الجدال والنقاش، ولا يمكن أن يكشف اللثام عن حقيقتها ووجهتها إلا من خلال إعلام مسلم فعال مواكب جاد، ويبقى المنبر هو رائد هذا الإعلام وفارسه وصاحب الكلمة العليا فيه، ولكن للأسف الشديد فإن الخطباء لا يدركون هذه الحقيقة ولا يروون ظمأ الجماهير1 التي تأتي المسجد تريد معرفة وجه الحق والنظرة الصحيحة المستقاة من الشريعة الغراء لما يجد من ملمات وأحداث، ولكنها تصدم بخطيبها الذي لا يدرك عن الأمر شيئاً، وربما إذا تحدث فيه تحدث عن غير علم ودراية، فيزيد الطين بلة.
فينبغي للخطيب أن يكون عارفاً بمواقع الثقافة الجديدة وأهوائها الفكرية، وخلفياتها وأبعادها القريبة والبعيدة، وأن يكون متابعاً لأحوال الأمة واهتماماتها وما يراد بها.
وأهم أصول هذه الثقافة هي:
ولا نعني بذلك أن تكون رغبة الجماهير هي المسيطرة والموجهة لدفة المنبر وما يطرحه من موضوعات ، وإنما المقصود أن كثيراً من القضايا والمستجدات التي تحل بالأمة ويتناولها جميع أهل الأرض إلا أصحاب الشأن وهم المسلمون، ولسان حالهم ومقالهم وهم الخطباء.
أ) واقع العالم الإسلامي:
فما أقبح بالخطيب أن يجهل أحوال أمته وواقع عالمه، وإلا فأين الجسد الواحد، ومن أين تستقي الجماهير أخبار إخوانهم وكيف يمكنهم مد العون لهم أو على الأقل المشاركة بالدعاء والدعم المعنوي لقضاياهم وأزماتهم؟!
ب) واقع القوى العالمية المعادية للإسلام:
إن تكالب أعداء الإسلام على الإسلام ودعاته أمر لا ينكره إلا مكابر، وتنوع أساليب الأعداء وتبادلهم الأدوار، فهذا اليوم يقدم بدور الحمائم، وغداً يكون هو الصقر الذي ينقض على فريسته، ومع غفلة الأمة عن إدراك حقيقة الصراع وطبيعته يصبح دور الدعاة وخطباء الأمر أمراً لازماً لتبصير الأمة بهؤلاء الأعداء وأساليبهم ومؤامراتهم، ولكن للأسف الشديد الناظر في أحوال الأمة اليوم يدرك غياب هذا الدور تماماً، ولا زالت تلهث وراء أعدائها وتتعلق آمالها بهم غافلة عن تاريخهم وعدائهم ومكرهم، وما ذاك إلا لأنهم اليوم يقومون بدور الحمائم، ومن ذلك تعلق المسلمين اليوم بروسيا أو فرنسا ليعيدوا إليهم حقوقهم السليبة وكرامتهم المفقودة وأرضهم المغتصبة ناسية أو متناسية دورهم القبيح وأفعالهم الشنيعة مع الشعوب المسلمة.
فإدراك الخطيب بهذا الواقع وأساليب الأعداء من اقتصادية وسياسية وفكرية وتنوع صورها من مؤسسات تنصيرية أو تبشيرية أو استشراقية، أو ماسونية، وتحذيره الأمة وتبصيرها بذلك من شأنه أن يقيها ضربات موجعة مؤلمة، ولكن يجب الانتباه إلى أمرين:
الأول: عدم التهويل والمبالغة في شأنها، الأمر الذي ربما سبب اليأس والقعود، كما أن التهوين يسبب الاستهانة وعدم الأخذ بالأسباب.
الثاني: إدراك طبيعة العلاقة بين هذه القوى المعادية، وأنهم تحسبهم جميعاً، وقلوبهم شتى.
جـ- واقع الأديان المعاصرة:
فمعرفة واقع الأديان المعاصرة وما اعتراها من تحريف وانحراف أمر ذو بال؛ فمعرفة اليهودية بتوراتها المحرفة وتلمودها ونظرته إلى الأمميين وانعكاس ذلك على الحركة الصهيونية وطبيعة الصراع الإسرائيلي.
ومعرفة النصرانية بطوائفها وكنائسها وما بينها من صراعات وخلافات ومحاولات ما يسمى بالتقارب النصراني اليهودي وتبرئة اليهود من دم المسيح وما ترتب على ذلك من تغير طبيعة الصراع بينهما وتوحيد الجبهة ضد المسلمين.
وكذا معرفة أديان الشرق الأقصى الكبرى من هندوسية أو بوذية وطبيعة العلاقة بينها وبين المسلمين، كل ذلك رصيد يحتاجه الخطيب ولا غنى له عنه.
د- واقع المذاهب السياسية المعاصرة:
من شيوعية ورأسمالية واشتراكية وديمقراطية وعلمانية وقومية وعولمة، ومعرفة الفرق بينها وأبعادها ومدارسها وصور ممارساتها في العالم الإسلامي ولبوس الزور التي تلبسها للتلبيس على المسلمين، وموقف الإسلام منها ومبادئها.
هـ- واقع الحركات الإسلامية المعاصرة:
ومعرفة أصولها الفكرية والحركية ومبادئها وحجم دعوتها وتأثيرها، وكيفية دعم الحركات التي على منهج أهل السنة والجماعة، والحذر من الحركات المخالفة لهذا المنهج مع النظرة الصحيحة القائمة على العدل، والمستقاة من النظرة الصحيحة في التعامل معها.
ثانياً: الدربة والمران أو الارتياض والممارسة:
إن الفطرة والاطلاع وثروة الألفاظ والقراءة الكثيرة والعلم بالأصول الخطابية لا تكفي في تكوين الخطيب لأن الخطابة ملكة وعادة نفسية لا تتكون دفعة واحدة، بل لابد لمريدها من المعاناة والممارسة والمران لتنمية مواهبه وعلاج عيوبه، ولم يبدأ خطيب حياته كاملاً إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكثير من الخطباء الناصعين كانت فيهم عيوب كلامية وغيرها فلا زالوا يعالجونها ويتمرسون على الخطابة وأسبابها حتى وصلوا إلى ما هم فيه.
ورياضة النفس على الخطابة تكون بأمور كثيرة؛ بعضها يتعلق بالإلقاء، وبعضها يتعلق بالأسلوب والفكرة.
ومن الرياضة التي تتعلق بالفكرة: أن يعود نفسه ضبط أفكاره ووزن آرائه وعقد صلة بينها وبين واقع الناس وأمورهم الحياتية، ومنها كثرة التأمل في شؤون الحياة وتعميق الفكرة فيها والدراسة لأحوالها، وأن يعود نفسه الاتصال بالناس ومعايشتهم لينبض بنبضهم ويعيش أحلامهم وأحاسيسهم.
وأما الأسلوب: فيعود نفسه الحديث بجيد الكلام وكتابته ومحاكاة البلغاء في أساليبهم مع الحذر من أن يرتدي غير ثوبه أو يطمس معالم شخصيته.
وأما الإلقاء: فيعود نفسه إخراج الحروف من مخارجها وقراءة ما يستحسنه بصوت مرتفع مصوراً بصوته معاني ما يقرأ بتغيير النبرات ورفع الصوت وخفضه، وغشيان ميادين القول والخطابة واغتنام فرصتها غير هياب ولا وجل ولا مستح، فإن الاستحياء في هذا نوع ضعف وهو يجر إلى الحبسة وموت المواهب، ويعود نفسه الارتجال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعليه ألا ييأس إن أصابته حبسة أو ارتباك، على الخطيب أن يعلم أن أول وآخر طريقة فعالة لتوكيد الثقة بالنفس في فن الخطابة هي أن يقف ويخطب، عليه أن يدرك أن الطريقة الوحيدة لتعلم السباحة هي النـزول إلى الماء!!
وثم أمر هام ينبغي التفطن إليه وهو أن الرياضة ليست فقط لطالب الخطابة، بل لزومها ربما يكون آكد لمن شدا فيها وعظم أمره، وهذا عمر رضي الله عنه يوم السقيفة يقول: فزورت في نفسي كلاماً، أي: إنه أعد في نفسه كلاماً وهيأها له، وهو من هو في البلاغة والفصاحة.
وهذا شيشرون أخطب خطباء الرومان يتمرن على إلقاء الخطبة قبل أن يقدم على إلقائها، وكانت تلك حاله حتى قتل.
ومما يتعلق بالفكرة هنا القدرة على استحضارها أو تنمية الذاكرة، وهذه مسألة هامة جداً للخطيب المرتجل على وجه الخصوص، والذاكرة القوية مع كونها فطرية في أصلها إلا أن أسباب اكتسابها ربما كانت أظهر للخطيب، وقوانين التذكر الطبيعية بسيطة جداً وهي ثلاثة:
أ) الانطباع:
فهو أول قانون للذاكرة، والمقصود منه العمق والسرعة والرسوخ في الأمر المرغوب تذكره، وإن خمس دقائق من التركيز الشديد تعطي نتائج أهم بكثير مما يعطيه قضاء عدة أيام في التأمل، ويمكن للخطيب أن يعود نفسه على التركيز في الانطباع بالاهتمام مثلاً بحفظ الأسماء الجديدة التي يتعرف عليها، وهؤلاء الذين لا يتذكرون أسماء من يتعرفون عليهم وينسونها في لحظتها حقيقة سلوكهم ليس في ضعف الذاكرة كما يرددون أحياناً، وإنما في ضعف ملاحظتهم، ويمكن التأكيد على الانطباع الأول باستخدام أكثر من حاسة، كالنظر والسمع إذا قرأ الإنسان ما يريد تذكره بصوت يسمعه.
ب) القانون الثاني للتذكر: التكرار:
والتكرار الأعمى لا يكفي، والمطلوب هو التكرار الذكي الذي يصاحبه جهد ذهني، وهنا أمر هام أثبتته الدراسة النفسية وهو أن الإنسان الذي يجلس ويكرر مراراً حتى يسيطر على ذاكرته يستخدم ضعف الوقت والطاقة الضروريتين لتحقيق النتائج ذاتها التي يمكن الحصول عليها بإجراء عملية التكرار في فترات منفصلة.
وهذه النتيجة جد مهمة للخطيب أن يعلمها وأن يعلم أنه بتأخيره وتحضير خطبته إلى ليلة أو يوم إلقائها فإنه بذلك يفقد نصف قدرة ذاكرته بسبب ما يتعرض له من إجهاد.
جـ) القانون الثالث: ترابط الأفكار:
إن سر الذاكرة الجيدة هو ذاته سر تكوين عدة أفكار مترابطة ومتعاكسة لدى كل حقيقة ترغب في الحصول عليها. مثلاً حتى يمكن تذكر اسم شخص ما يمكنك ربط اسمه بصفاته أو مهنته أو أحد الأسماء المتداولة، وكذا التواريخ والأرقام عن طريق ربطها بتواريخ وأرقام هامة ثابتة في الذهن، وأفضل الطرق لتذكر النقاط الرئيسة في الخطاب هو التسلسل المنطقي لعناصر الموضوع.
وما سبق فهو من أساسيات التحصيل العلمي والدربة إلا أن هناك أموراً هامة يحسن التنبيه عليها وهي مرتبطة بها وهي:
1- تجنب الخوض فيما لا يعلم:
فإن هذا موقع الارتباك والحديث غير المفهوم، وهو أحد أسباب ضياع الهيبة والوقار وفقدان الثقة في الخطيب والزهد فيه والنفور منه.
2- مخاطبة الناس بما يعرفون:
فمن الخطأ البين وقلة الفقه من الخطيب الخوض في دقائق العلوم والمعارف والخوض في الخلافات والعلوم التجريبية البحتة من طب وتشريح وفلك.. مما لا تدركه فهوم عموم المستمعين، الأمر الذي يكون له أكبر الأثر في الانصراف عن الخطيب وربما الاستهانة به وبموضوعه والتندر به.
3- مراعاة مقتضى الحال وأحوال السامعين ومراعاة عادات الناس وأعرافهم:
فلكل مقام مقال، ولكل جماعة لسان، والحديث إلى العلماء غيره إلى الأغنياء، وحديث العامة ليس كحديث العلية، وخطاب المثقفين غير خطاب الأميين، وما يقال في الخوف والشدة ليس كما يقال في الأمن والرخاء، ومخاطبة المتحمسين غير مخاطبة النائمين.
والمتكلم الجيد يعرف أقدار المعاني ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الأهوال.
كما أن خطاب أهل القرية المنعزلة المحدودة ليس كخطاب أهل المدينة المكتظة بأهلها وصحبها وأحداثها.
وكذلك لكل جماعة من الناس عاداتها التي تسودها وتسيطر عليها، ولها سلطانها على القلوب والأسماع وغفلة الخطيب عن مراعاة ذلك من أعظم أسباب فشله.
وقد كان الأحنف بن قيس وهو من أبلغ البلغاء والخطباء المسودين فقيل له: بم سدتَ؟ قال: لو أن الناس كرهوا الماء ما شربته.
ومعنى هذا اعتباره للعرف والعادة ومراعاة أهله.
ثانياً: آداب الخطيب:
إن الخطيب رسول يتحدث عن الإسلام يقرب الناس إليه ويحببهم فيه ويوجههم للعمل بما يدعو إليه، وكل هذه مهام تتطلب صفات وآداباً وخصالاً تحمل الناس على الانقياد له والتسليم له، وهذا لا يتأتى من روعة الخطبة وحدها ولا براعة الخطيب ومهارته، وإنما هناك أمور وآداب ينبغي لكل خطيب أن يتحلى بها ويتأدب بها إن أراد أولاً تحصيل مكانة وثواب الداعي إلى الله عز وجل ثم التأثير في الناس وتوجيههم لما يدعو إليه، ويمكن تقسيم هذه الآداب إلى:
أ ـ آداب باطنة:
وهي تتعلق بجملة من الأخلاق والآداب التي مردها إلى القلب والنفس وإن كان يظهر أثرها على السمت والظاهر، وهذه الآداب هي:
1- الإخلاص: فيقصد بدعوته وخطبته وجه الله وحده لا سواه، لا يقصد جاهاً ولا شهرة ولا سمعة، فالخطابة والدعوة عبادة بل هي من أعظم الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، ومن ثم فلابد من توافر ركني القبول فيها وهما الإخلاص والمتابعة، وناهيك عن كون الكلمات الجوفاء غير المخلصة لا تؤثر في أحد ولا تحرك ساكناً وتخرج ميتة، فإن المصيبة العظيمة والطامة الخطيرة في افتقار الإخلاص وعقوبة ذلك الأخروية:
وفي الحديث الصحيح: أول ثلاثة تسعر بهم النار يوم القيامة رجل تعلم العلم وعلمه ليقال عالم.
وعندما يغيب الإخلاص ويلتمس رضا الناس وثناؤهم؛ فإن الذي يحرك الخطيب هو رغبات الناس واختياره لموضوع خطبته وطرحه بقدر ما يحقق له ذلك، فليحذر الخطيب من هذا الداء العضال وليعلم أنه لا يجتمع إخلاص ومحبة ثناء وطمع في الناس في قلب أبداً إلا كما يجتمع الماء والنار، فمن أراد الإخلاص فليقبل على الطمع أولاً فيذبحه بسكين اليأس، وليقبل على حب المدح والثناء ويجهز عليه بسيف الزهد والطمع في الآخرة، فحينئذ يكون الإخلاص.
2- القدوة الباطنة: ونعني بها موافقة العمل للقول وتصديقه له.
وذلك أن الداعي من المدعو يجري مجرى الطابع من المطبوع، فكما أنه محال أن ينطبع الطين على الطابع بما ليس منتقشاً به، فكذلك محال أن يحصل في نفس المدعو ما ليس بموجود من الداعي، فإذا لم يكن الداعي إلا ذا قول مجرد من العمل لم يكن نصيب المدعو منه إلا القول، فكيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! وفاقد النور كيف يستنير به غيره؟!
قال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.
ولأن نطق الأفعال أقوى وأبلغ في الإقناع من نطق اللسان.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
لا تنه عـن خلق وتـأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيـم
ابدأ بنفسك فانهها عـن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُسمع ما تقول ويُشتفى بالقـول منك وينفع التعليم
وقد ذم الله عز وجل هذا المسلك أشد الذم فقال: {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. والمقت أشد الكره وأعظمه.
"فينبغي للخطيب أن يكون ذا سيرة سديدة وطريقة حميدة، غير متهافت على الدنيا ومراتبها، صابراً على آفاتها ونوائبها، مراقباً لله سبحانه في سره وجهره، راضياً عنه في عُسره ويُسره، مغتنماً نشاطه، مهتماً بتقصيره وجبره، محافظاً على العمل بما أمر به في نفسه وخاصته، مُحباً لأهل الله تعالى، مبغضاً لأهل مخالفته، حذراً من زخارف الدنيا وزينتها، غير مُلته بعبيدها وشهوتها، كارهاً لرفعتها وشهرتها، قائماً بفرائض الله وحدوده، قاعداً عن محاذره ومحدوده، مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا قعدة قاعد، ولا قومة قائم"1.
3- الحلم وسعة الصدر:
فكمال العلم في الحلم، ولين الكلام مفتاح القلوب، فيستطيع الخطيب أن يعالج أمراض النفوس ويداوي عللها بهدوء نفسه واطمئنان قلبه وسعة صدره، أما إذا استفزه الغضب واستثاره الحمق نفرت منه القلوب وأعرضت النفوس، والله عز وجل يقول لخيرة خلقه وخاتم رسله صلى الله عليه وسلم: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك }.
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.
4- التواضع:
والداعية إلى الله والخطيب الذي يوجههم أحوج من غيره إلى هذا الخلق؛ فالناس لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبر عليهم، وإن كان ما يقوله حقاً وصدقاً، كذلك فإن من طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه وكثير الثناء عليها، ويكثر من قول أنا، أنا..
كما أن الناس لا يقبلون على أصحاب الأبراج العاتية الذين ينظرون إليهم وإلى اهتماماتهم من علٍ يأنفون أن يخالطوهم عن كثب ويعيشون في معزل عنهم فلا تزاور ولا التقاء بعيداً عن جدران المسجد يلمس الناس فيه صدق الداعية والخطيب وشفقته وتواضعه.
والتواضع في الأصل يقال للكبار الذين هم في حقيقة الأمر كبار، أما نحن فيقال لكل واحد منا: اعرف قدر نفسك، والإنسان إنما يستطيل ويتكبر ويعجب بنفسه إذا جهل بحقيقة نفسه ولم يعرف قدر ربه، وقد يتطرق الكبر والعجب للدعاة والخطباء لما يرون عليهم أنفسهم من التفات الناس إليهم واستماعهم لهم، والتفافهم حولهم، وهؤلاء على خطر عظيم في الدنيا قبل الآخرة وقد قال بعض السلف: "من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه رفعه الله به".
وفي الحديث: ((من تواضع لله رفعه)) ومفهومه أن من تكبر وضعه.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)).
ويلزم معرفة الفرق بين التواضع المحمود والمذلة المهينة، وما أجمل قول ابن المبارك في ذلك حيث يقول: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك عليه بدنياك فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أن ليس له بدنياه عليك فضل.
5- ضبط النفس واحتمال المكاره:
أدب الخطيب ص 87، 88.
فالخطابة منصب خطير؛ إذ قد تعترض الخطيب مصاعب ومكاره وقد يقابل بصد أو إعراض وربما سخرية واستهزاء، علاجه وسلاحه في ذلك كله الصبر والاحتمال.
6- القناعة والعفة واليأس من الناس:
فعلى قدر قناعة العلماء والدعاة والخطباء في الدنيا وتقللهم منها تكون مكانتهم في نفوس الناس والتفافهم حولهم والانقياد لهم، وعلى قدر تعلقهم بالدنيا تكون زهادة الناس فيهم وعزوفهم عنهم ونفرتهم منهم.
قال سفيان الثوري: العالم طبيب هذه الأمة، والمال داؤها، فإذا كان يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره؟!
والقناعة والعفة والاستغناء عن الناس شرف الداعية والخطيب، يقول الحسن البصري: لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه. وقيل لأهل البصرة: من سيدكم؟ قالوا: الحسن. قال: بم سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم.
وفي الحديث: ((ازهد فيما عند الناس يحبك الناس)).
فينبغي للداعية والخطيب نزاهة النفس عن شبه المكاسب، والاكتفاء بالميسور عن ذل المطالب؟ فإن شبه المكتسب إثم، وكد الطلب ذل.
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانـوه فهـان ودنسوا محياه بالأطمـاع حتى تجهما
ورحم الله محمد بن واسع البصري؛ فقد كان يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد.
7- الورع واتقاء الشبهات والبعد عن مواضع الريبة ومسالك التهمة:
فذلك أبرأ لذمة الداعية والخطيب وأسلم لعرضه وأهون على الإقبال عليه، وأدعى إلى الانقياد له؛ لأن حال الداعي يؤثر في القلوب أكثر من مقاله، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة الهدى.
وقد حكت لنا كتب التراجم والسير نماذج رائعة لورع السلف وصوراً أقرب ما تكون للخيال لولا صدق الرواية وتواترها.
وهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه كان يوزن بين يديه مسك للمسلمين فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة، وقال: هل ينتفع منه إلا بريحه؟!
قال ذلك لما استبعد ذلك منه، وهذا من ورعه رحمه الله.
وهذا الفضيل بن عياض رحمه الله كانت له شاة فأكلت شيئاً يسيراً من علف بعض الأمراء فلم يشرب من لبنها بعد ذلك.
وقال ابن المبارك رحمه الله: لأن أرد درهماً من شبهة خير من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف ومائة ألف.
وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم سيد المتقين وإمام الورعين مر بتمرة فقال: ((لولا أن تكون صدقة لأكلتها)) وخبر أبي بكر واستقائه معلوم مشهور.
وأما البعد عن مواضع الريبة ومسالك التهم، فذلك أن من فعل ذلك لا يأمن من إساءة الظن به وسقوطه في عين الناس فلا ينفع نصحه ووعظه، وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا يظن به مسلم أبداً سوءاً يقول وقد رآه رجلان من أصحابه مع زوجه: ((إنها صفية)) فيكبر على الصحابيين ذلك فيجيبهما: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في الجسد، وإني خشيت أن يُدخل عليكما)).
فينبغي للداعية والخطيب أن يتحرز عن كل ما يوهم نسبته إلى ما لا يليق لئلا يوجب سوء الظن به، وإن كان له مخلص، فذلك سبب لعدم الانتفاع به وبإرشاده.
وعن علي رضي الله عنه قال: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره؛ فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تبلغه عذراً.
8- علو الهمة:
فينبغي للخطيب أن يكون كبير الهمة عالي النفس مترفعاً عن الدنايا والسفاسف، يستصغر ما دون النهاية من معالي الأمور.
ومثل هذا الخطيب يرتفع بهمم جمهوره، واهتماماتهم فيصطبغون بصبغته ويتخلقون بأخلاقه، وإنما كانت همة الصحابة رضي الله عنهم على هذا النحو العظيم، لتأثرهم بهمته صلى الله عليه وسلم وعلو نفسه الشريفة؛ حتى كان الشجاع منهم من يكون قريباً منه في ساحات الوغى.
ب) آداب ظاهرة:
وهي تتعلق بجملة من الآداب والأخلاق المتعلقة بالسمت والسلوك، وهذه الآداب لها دور بارز مؤثر في تأثير الخطيب في الناس واقتناعهم به وإقبالهم عليه.
ومن هذه الآداب:
1. حسن الهيئة:
فالخطيب مطمع الأنظار، والنظر يفعل في القلب فعل الكلام في السمع؛ فينبغي له أن يتهيأ قبل الخطبة بالطهارة والادّهان والطيب والاغتسال والتزين على مقتضى الشريعة في جميع ذلك1.
راجع مبحث الاستعداد للجمعة والتهيؤ لها في فقه الجمعة.
يقول الماوردي: ((ويستحب للإمام من حسن الهيئة وجمال الزي أكثر مما يستحب للمأموم؛ لأنه متبع)).
وقال الإمام النووي: ((ويستحب للإمام أكثر مما يستحب لغيره من الزينة وغيرها..)).
وذكر الجاحظ في كتاب ((البيان والتبيين)) أن أبا واثلة إياس بن معاوية المزني أتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق، فاستولى على المجلس؛ ولأوه أحمر ذميماً باذ الهيئة قشفاً، فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه، وقالوا له: ((الذنب مقسوم بيننا وبينك؛ أتيتنا في زي مساكين تكلمنا بكلام الملوك)).
كما لا ينبغي للخطيب أن يبالغ في ارتداء نفس الثياب بدعوة الوجاهة والوقار لما يترتب على ذلك من حصول فجوة في الغالب بينه وبين الجماهير، خاصة إذا كانوا من وساط الناس، وخير الأمور الوسط، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
2. الوقار والرزانة:
وذلك بالإمساك عن فضول الكلام، وكثرة الإشارة والحركة فيما يستغني عن الحركة فيه، والتحفظ من التبذل بالهزل القبيح، وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والقبيح، والمزاح السخيف، فلا كرامة لمبتذل، ولا عظمة لمن يسرف في المزاح ويفحش فيه، وينبغي له الترفع عن الجلوس في الأسواق وقوارع الطرق من غير ضرورة؛ فإن الإكثار من ذلك مخل بكرامته، وفي الجملة ينبغي له التحلي بالسكينة والوقار في جميع أحواله وفي مشيته وكلامه، فهو من أسباب اكتساب الهيبة والإجلال عند الناس وأدعى للانتفاع به، ولكن يجب الحذر من الخلط بين الوقار والرزانة، وبين الكبر والعجب بالنفس والترفع عن الخلق؛ فليس مقصود كلامنا أن يصبح الخطيب شخصاً منبوذاً في مملكة موهومة لا يألف ولا يؤلف، ولا يجرؤ أحد على مخاطبته والحديث إليه.
وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس وقاراً ورزانة ووجاهة وأعظمهم هيبة في نفوس أصحابه، وكانت الأمة تأتيه فتأخذ بيده فيصحبها حتى تقضي حاجتها.
3. المحافظة على السنة :
وهذا كما يشمل الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم باطناً، فإنه أيضاً يشمل المحافظة على الهدي الظاهر المستحب منه والواجب، وهذا أدعى لقبول الناس منه ما يدعوهم إليه من اتباع أمره صلى الله عليه وسلم واتباع سنته وشرعته، ولا يعقل مثلاً أن يدعوهم إلى الالتزام بهديه صلى الله عليه وسلم ثم هو مثلاً حالق لحيته، أو ينهاهم على الإسبال مثلاً وهو مسبل، ومبدأ "خذ كلامي ودع فعالي" لا يصلح مع كل أحد خاصة الخطيب الذي تتجه إليه الأنظار وتتعلق به الأبصار، والذي عليه التأدب والالتزام بكل ما من شأنه أن يجمع حوله القلوب ويحملها على الامتثال.
وبعد هذا البيان لصفات الخطيب وآدابه التي ينبغي له أن تتوفّر فيه، نشرع في بيان بعض العيوب التي ينبغي أن يتقيها ويجتنبها، فإنه لا يطيّب الثوب حتى يغسل.
عيوب الخطابة
يمكن تقسيم العيوب الحاصلة في هذا الفن ثلاثة أقسام:
الأول: عيوب في الخطيب، ومنها:
1 ـ اللحن:
وأفحشه ما كان في آيةٍ أو حديث، ثم ما غيّر المعنى، ثم ما كان في كلام الغير.
قال عبد الملك بن مروان: " الإعراب جمال للوضيع، واللحن هُجنة على الشريف، والعُجب آفة الرأي"1، وكان يقال: "اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدَريّ في الوجه"2.
وإن أعظم أسباب اللحن الجهلُ بعلمي النحو والصرف. قال الأصمعي: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي فليتبوّأ مقعده من النار)) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويتَ عنه ولحنت فيه كذبت عليه".
ولذا ينبغي للخطيب أن يتعلم من النحو واللغة ما يقوّم به لسانه، ويَسلم به من هذه الآفة.
2 ـ التصحيف:
وأكثر ما يقع لمن يقرأ من كتاب، فيصحف نظره بسبب رداءة الخط أو ضعف البصر أو عدم استيعاب ما يقرأ أو عدم التركيز فيه أو غير ذلك من الأسباب، وقد حصل لبعض الفضلاء أن قال في خطبته وهو يقرأ من ورقة: "ومن ترك واجبًا من واجبات الحج متعمدًا يأثم ويَكْفُر" بتخفيف الفاء، فنبّهه بعض الناس بعد قضاء صلاته، فبادر إلى تصحيح خطئه، وقال: "الصواب: يأثم ويُكفِّر" أي من الكفارة.
· الخطبة المكتوبة:
ومن العيوب التي ينبغي التنبيه إليها في هذا المقام ـ وإن كانت هي ليست من التصحيف ـ انتقال البصر من سطر إلى سطر آخر، أو من فقرة إلى فقرة أخرى، أو أن تنقصه ورقة، أو يختل ترتيب أوراقه، ولا يتنبّه لشيء من ذلك، وهذا بعض مساوئ الخطبة المكتوبة، وهي عيوبٌ حادثةٌ لم يذكرها المتقدمون؛ لأن الخطبة عندهم لا تكون بالقراءة من كتاب، فهذه قراءة وتلك خطابة، فهما فنّان مستقلان متباينان.
العقد الفريد (2/479)، والبيان والتبيين (2/216).
2 البيان والتبيين (2/216) وانظر العقد الفريد (2/478)، وعيون الأخبار (2/158).
3 ـ اللّفف والعجلة:
والمراد باللّفف التباطؤ في الكلام حتى كأن لسانه قد الْتفَّ، والمراد بالعجلة السرعة في الإلقاء، فكما أن الإسراع مذموم لما فيه من تفويت الفهم على السامع، فكذلك التباطؤ مذموم لما فيه من بعث الملل والضجر في قلوب السامعين، والسنة الاقتصاد في ذلك، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: "ما كان رسول الله r يسرُد كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بَيْنَه فصل، يحفظه من جلس إليه"1،
وقد تكون سرعة الإلقاء طبعًا في الخطيب وقد يكون سببها طول موضوع الخطبة، أو القراءة من كتاب.
4 ـ كثرة الحركة:
وذلك كالعبث باللحية أو الخاتم أو الساعة أو النظارات أو الثوب أو العمامة، فإنها منقصة من هيبة الخطيب، ومدعاة للازدراء والاحتقار، وأنشد بعضهم في ذم ذلك فقال:
مليٌّ ببُهر والتفاتٍ وسعلة ومسحة عثنونٍ وفتل الأصابع2
وسبب هذا العيب هو ترك سنة الاستناد أثناء الخطبة.
فينبغي للخطيب أن يعالج هذا العيب بوضع يديه على المنبر أو العصا، وأن يستشعر حرمة المقام ويراعي لحظ المخاطبين فيلزم السمت والسكون والوقار.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحركة اليسيرة الموزونة لا بأس بها، بل قد تكون أحيانًا مطلوبة لزيادة الإفهام، وهي التي كان النبي r يستعملها في بعض خطاباته كما في قوله r: ((بعثت أنا والساعة كهاتين))، وقوله: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين))، وكإشارته بالسبابة إلى السماء، وغير ذلك.
قال بعض الأدباء: "الإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط"3.
5 ـ البهر والارتعاش والرّعدة والعرق:
وهذا العيب من أشد العيوب وطأة على الخطباء، لأنه يعتري الخطيب قسرًا، ويغلبه قهرًا، فإذا اعتراه أفقده توازنه، وأوقعه في الاضطراب الشديد، وقد يصل به الأمر إلى أن يضطر إلى قطع خطبته فلا يستطيع إكمالها مهما حاول، حتى إن بعضهم لا يقوى على القيام.
أخرجه أبو داود [4839]، والترمذي [3639]، واللفظ له وحسنه، ووافقه الألباني.
2 العقد الفريد (4/55)، والبيان والتبيين (1/4).
3 البيان والتبيين (1/78).
وهذا العيب غالبًا ما يعتري المبتدئين الذين لم يستعدوا نفسيًا ولم يتدربوا لهذا المقام، وقد يعتري غير المبتدئين وذلك إذا علم أن من بين الحضور أناسًا يوقّرهم ويعظمهم ويُكبرهم.
6 ـ رفع اليدين:
رفع اليدين عند الدعاء في الخطبة خلاف السنة، إلا في دعاء الاستسقاء فقد ثبت عنه r رفع اليدين فيه، أما غيره من الدعاء فلا يشرع للخطيب أن يرفع فيه يديه، فعن حصين أن بشر بن مروان رفع يديه يوم الجمعة على المنبر، فسبّه عمارة بن رؤيبة الثقفي وقال: "ما زاد رسول الله على هذا" وأشار بإصبعه السبابة1
7 ـ ضعف الصوت:
صوت الخطيب هو الآلة التي يبلّغ بها خطبته، فإذا كان صوته ضعيفًا كان التبليغ ضعيفًا، فلا يحصل مقصود الخطبة، ولذا كان النبي r إذا خطب احمرّت عيناه وعلى صوته كأنه منذر جيش. يقول: ((صبحكم ومساكم)).
وقد كانوا يمدحون الجهير الصوت ويذمون الضئيل الصوت، فقال طحلاء وهو يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخطبة:
رَكـوب المنابـر وثّابُها مِعَـنٌّ بخطبتـه مجهــرُ
تَريع إليه هوادي الكـلام إذا ضلّ خطـبتَه المهـذَرُ2
ويمكن للخطيب الذي بلي بهذا العيب أن يذهبه بالمراس والمِران.
8 ـ عدم التفاعل مع الخطبة:
لا يخفى أن الخطبة قد تشتمل على فنون شتى متغايرة؛ فقد تشتمل على الترغيب والترهيب، وعلى التحذير والتبشير، وقد تشتمل على ما يقتضي الحزن أو الفرح، أو الغضب أو الخوف، والخطيب الموفق يعطي كل مقام حقه من الانفعال والتغيّر.
وسبب هذا العيب في الغالب هو خروج الكلام من اللسان دون القلب، ومتى حصل ذلك لم تؤت الخطبة ثمارها. قال عامر بن عبد قيس: " الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان".
والتفاعل الذي ننشده هو التفاعل الحقيقي الصادق، وليس التفاعل الصوري المتكلّف، فهذا يضر صاحبه، ويجعله هزأة عند المستمعين.
رواه مسلم [874] والترمذي [514] والنسائي (3/108) واللفظ له.
2 البيان والتبيين (1/127). (معنّ) أي تعنّ له الخطبة فيخطبها مقتضبا لها، (وتريع إليه ...) أي ترجع إليه أوائل الكلام إذا ضلت وذهبت عن المهذر الكثير الكلام.
وأشد عيبًا من عدم التفاعل التفاعل بما لا يناسب الكلام فإنه يبعث في السامع التعجب والحيرة فيشغله محاولة تفهّم هذا التصرف من الخطيب عن الإنصات لخطبته.
9 ـ استغلال المنبر لأغراض شخصية:
وهذا العيب من أخسّ العيوب، ويقع فيه بعض الخطباء لقلّة دينه وضعف إيمانه، أو لضعف شخصيته، ومن صوره أن ينتقم الخطيب لنفسه، أو يدافع على نفسه، أو يدعو إلى نفسه، وهذا من أكبر العدوان على المخاطبين، قال بعض الفضلاء: "إن شرّ السراق الخطباء الذين يستغلون المنبر لأغراضهم الشخصية؛ لأنهم يسرقون أعمار الناس، فهم شر ممن يسرق أموالهم".
ومن مضار هذا العيب:
· الإ